فصل: مسألة القنوت في الصلاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة تفسير حديث النبي عليه السلام اعلفه نضاحك:

في تفسير النضاح في الحديث وسئل مالك عن تفسير حديث النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اعلفه نضاحك» قال: رقيقك؛ لأن النضاح عندهم الرقيق. ويكون من الإبل. ولكن تفسيره الرقيق.
قال محمد بن رشد: حديث النبي عليه السلام الذي جاء فيه «اعلفه نضاحك» هو حديث مالك في موطئه عن ابن شهاب «عن ابن محيصة الأنصاري أحد بني حارثة، أنه استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إجارة الحجام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال اعلفة نضاحك» يعني رقيقك. وهو كما قال رَحِمَهُ اللَّهُ من أن النضاح الرقيق.
وقد يكون من الإبل، والأظهر في الحديث أنه أراد النضاح فيه من الإبل؛ لأنه حال فيه اعلفه، ولم يقل أطعمه؛ لأن العلف إنما يستعمل في البهائم، لا في بني آدم. ويبين هذا قوله في غير هذا الحديث: «اعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك». ولم ينه النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عن إجارة الحجام، من أجل أنها حرام، وإن كان قد روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في كسب الحجام، أنه سحت. وروي عنه أنه قال: «السحت كسب الحجام». وأنه قال فيه: إنه خبيث إذ لو كان حراما أو سحتا أو خبيثا لما جاز أن يطعمه رقيقه. وإنما المعنى فيه أنه من الكسب الذي يستحب لذوي الفضل والأقدار أن يتنزهوا عنه. فإن كان ولابد فلا يأكلوه ويطعموه رقيقهم، كما جاء في الحديث، وقد قال مالك: لا بأس بإجارة الحجام. واحتج في ذلك بأن قال: كل ما يحل للعبيد أكله يحل للأحرار، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قوله عليه السلام في الحديث انجو عليها بنقيها:

في تفسير قوله في الحديث «انجو عليها بنقيها» وسئل مالك عن تفسير قوله: انجو عليها بنقيها قال: نقيها شحومها وأنفسها. أما تسمع أنه يقال: لا تنقي فهو النقي.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن النقي الشحم والقوة في النفس، والحديث الذي جاء هذا فيه. هو حديث مالك الذي رواه في موطئه عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن خالد بن معدان يرفعه: «إن الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض جدبة فانجو عليها بنقيها، وعليكم بسير الليل، فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق، فإنها طرق الدواب، ومأوى الحيات» وقوله في الحديث «ويعين عليه ما لا يعين على العنف» والعنف لا يحبه الله ولا يرضى به. والمعنى فيه إن الله يعطي صاحب الرفق من بلوغ حاجته التي يستعين بها على أمور دينه ودنياه، ما لا يعطي لصاحب العنف، يريد بهذا التأويل قوله في الحديث: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى». وسائر ما في الحديث أدب أرشد النبي عليه السلام إليه المسافر، من أن ينزل الدواب منازلها في الخصب لترعى فيه، وتقوى على المسير، ويسرع السير عليها في الجدب قبل أن تضعف، فلا تقدر على السير. وحض على السير بالليل؛ لأن الدواب إذا استراحت بالنهار نشطت على المشي بالليل، وكان أخف عليها من المشي بالنهار، فقطعت فيه من المسافة ما لا تقطع في قدره من النهار. فهذا هو معنى قوله: «فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار». إذ لا تطوى على الحقيقة لا في الليل ولا في النهار إلا للأنبياء معجزة وللأولياء كرامة.

.مسألة ما جاء في قول الرجل هلك الناس:

فيما جاء في قول الرجل هلك الناس وسئل مالك عن تفسير: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم» قال: ما أرى ذلك فيما أرى، والله أعلم، إلا أن يقول: هلك الناس، أي إني خير منهم. قال: وأما إذا قال هلك الناس تحزنا عليهم فلا بأس.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء هذا فيه وسئل مالك عن تفسيره هو حديث أبي هريرة في جامع الموطأ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم» وتفسير مالك صحيح لا اختلاف أعلمه في أن معنى الحديث، إذا قال ذلك إعجابا بنفسه، واحتقارا للناس. وأما إذا قاله إشفاقا على من بقي، لقلة الخير فيهم، وتحزنا على من مضى لكثرته فيهم، فليس ممن جاء الحديث فيه، والله أعلم. وقد قال مسلم بن يسار: إذا لبست ثوبا فظننت أنك فيه أفضل منك في غيره، فليس الثوب هو لك. قال مسلم: وكفى بالمرء من الشر أن يرى أنه أفضل من أخيه.

.مسألة خشية عمر بن عبد العزيز:

في خشية عمر بن عبد العزيز قال مالك: صلى بالناس عمر بن عبد العزيز المكتوبة، فقرأ بهم: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] فلما بلغ: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] خنقته العبرة فلم يستطع أن يجاوز ذلك ثم أعادها فلما بلغ ذلك الموضع أيضا خنقته العبرة، فتركها. ثم قرأ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1].
قال محمد بن رشد: هذا من فعل عمر بن عبد العزيز نهاية في الخوف لله. ومن بلغ هذا الحد فهو من أهل الجنة بفضل الله. قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. وقد روى الصلت عن ابن القاسم أنه قال: لا يطلق على من حلف بالطلاق، وأن عمر بن عبد العزيز من أهل الجنة. وسئل مالك عن ذلك فتوقف، وقال: عمر بن عبد العزيز إمام هدى أو قال رجل صالح، وفضائله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أكثر من أن تحصى. وقول ابن القاسم بالصواب أولى لأن الأمة قد اجتمعت على الثناء عليه، والشهادة له بالخير وهي معصومة. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «لن تجتمع أمتي على ضلالة»، وقال: «أنتم شهداء الله في الأرض، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار». وقد مضى هذا في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة.

.مسألة ما يلزم من بر الأب:

ما جاء فيما يلزم من بر الأب وسئل مالك عن الرجل يكتب اسمه قبل اسم أبيه فقال: هذا الضلال، والنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ يقول: «كبر كبر».
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن للأب عليه حق السن الذي أمر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أن يقدم بسببه. وحق الأبوة الذي هو أكبر من حق السن. قال الله عز وجل: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] وقال: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه». ولما جاء من أنه ما بر أبويه من شد النظر إليهما أو إلى أحدهما. وبالله التوفيق.

.مسألة وضع المرأة جلبابها عند زوج ابنتها:

في وضع المرأة جلبابها عند زوج ابنتها وسئل مالك عن الرجل أتضع أم امرأته عنده وهي قاعدة جلبابها؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الله يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] الآية. فأباح عز وجل أن تضع خمارها عن جيبها وتبدي زينتها عند ذوي محارمها من النسب والصهر، زوج ابنتها من ذوي محارمها، فجاز أن تضع عنده جلبابها، وقد كره مالك في رسم حلف في كتاب النكاح أن يسافر الرجل بامرأة أبيه، بعد أن يفارقها أبوه استحسانا، بعد أن استدل بقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية. على جواز ذلك. وكره ذلك ابن القاسم فارقها أو لم يفارقها، لاحتمال أن يكون أراد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بقوله: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع محرم من ذوي محارمها» من النسب دون الصهر. وقد نص الله في هذه المسألة على ذوي محارمها من النسب والصهر بقوله: {آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] فوضع جلبابها عنده أبين في الجواز من سفرها معه. وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة صلاة الرجل في بيته بزوجته:

في صلاة الرجل في بيته بزوجته وسئل مالك عن الرجل يصلي في بيته المكتوبة، أيصليها بزوجته وحدها؟ قال: نعم. وتكون وراءه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن للرجل أن يصلي بزوجته وحدها وتكون وراءه صحيح مما اجتمع عليه العلماء، ولم يختلفوا فيه؛ لأن سنة النساء في الصلاة أن يكن خلف الرجال وخلف الإمام، لا في صف واحد معه ولا معهم، واحدة كانت أو اثنتين أو جماعة، وإنما الكلام في الرجل أو الرجلين إذا كانا مع الإمام، على ما مضى القول فيه في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة يقين يعقوب عليه السلام برؤيا ابنه يوسف:

في يقين يعقوب برؤيا ابنه يوسف وسمعته يقول: كان يعقوب يقول في غمراته التي كان فيها: فأين رؤيا يوسف؟ يقينا بما أراه الله.
قال محمد بن رشد: معنى هذا أنه كان يقول في غمراته التي كانت تعتريه من شدة وجده على يوسف، لما كان يوسف منه، فأين رؤيا يوسف؟ يقينا بأنها ستخرج على ما تأولها عليه، وذلك أن يوسف لما قال له: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] تأول أن إخوة يوسف، وكانوا أحد عشر رجلا، وأبويه سيسجدون له، أعلمه الله بذلك، فقال: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] يقول: يحسدونك ظنا منهم، فكان حقا، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] أي بين العداوة. ثم قال له: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] أي يصطفيك ربك، وهو الإخبار بالنبوءة. وهو شيء أعلمه الله يعقوب، أنه سيعطي يوسف النبوءة. وقوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] قيل: تعبير الرؤيا، وقيل: عواقب الأمور التي لا تعلم إلا بوحي النبوءة. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف: 6] بالنبوءة {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف: 6]. أعلمه أنه سيعطي أولاد يعقوب النبوءة كلهم.

.مسألة ما يخشى على محتكر الطعام من فساد نيته:

فيما يخشى على محتكر الطعام من فساد نيته قال: وسمعت رجلا كان عنده طعام كثير، فغلا الطعام، فأتى الناس يغبطونه بذلك، قال: فإني أشهدكم أنه للناس بما أخذته. وقال: أبجوع الناس تغبطوني.
قال محمد بن رشد: في قوله: هو للناس بما أخذته، دليل على أنه اشتراه للحكرة، ولم يصبه من حرثه. ومعنى ذلك أنه اشتراه في وقت لا يضر شراؤه بالناس، إذ لو اشتراه في وقت يضر شراؤه بالناس، لكان ما فعل من إعطائه لهم بما اشتراه به، هو الواجب عليه، إذ لا اختلاف في أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة في وقت يضر احتكاره بالناس، وأما احتكارها في وقت لا يضر احتكارها فيه بالناس، ففيه أربعة أقوال، أحدها: إجازة احتكارها كلها: القمح والشعير وسائر الأطعمة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: المنع من احتكارها كلها جملة من غير تفصيل، للآثار الواردة في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وغيره، فقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا يحتكر إلا خاطئ» وهو مذهب مطرف وابن الماجشون. والثالث: إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير، وهو دليل رواية أشهب عن مالك في رسم البيوع الأول من كتاب جامع البيوع. والرابع: المنع من احتكارها كلها، ما عدا الأدم والفواكه، والسمن، والعسل والتين، والزبيب وشبه ذلك. وقد قال ابن أبي زيد فيما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون من أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة: معناه في المدينة، إذ لا يكون الاحتكار أبدا إلا مضرا بأهلها، لقلة الطعام بها، فعلى قوله، هم متفقون على أن علة المنع من الاحتكار تغلية الأسعار، وإنما اختلفوا في جوازه لاختلافهم باجتهادهم في وجود العلة وعدمها. ولا اختلاف بينهم في أن ما عدا الأطعمة من العصفر والكتان والحنا وشبهها من السلع يجوز احتكارها إذا لم يضر ذلك بالناس.

.مسألة الدعاء في حوائج الدنيا:

في استحباب الدعاء في حوائج الدنيا قال: وحدثني يحيى بن سعيد أنه كان بإفريقية، قال: فأردت حاجة من حوائج الدنيا، قال: فدعوت فيها ورغبت ونصبت واجتهدت، قال: ثم ندمت بعد ذلك، فقلت: لو كان دعائي هذا في حاجة من حوائج آخرتي، قال: فشكوت ذلك إلى رجل كنت أجالسه فقال لي: فلا تكره ذلك. فإن الله قد بارك لعبد في حاجة أذن له فيها بالدعاء. قال مالك: بينما عروة بن الزبير في المسجد، إذا برجل يصلي، ثم انصرف ولم يدع كثيرا. قال: فدعاه عروة بن الزبير فقال له: أما كانت لك حاجة إلى الله؟ والله إني لأدعو في حوائجي حتى في الملح، وقد بلغني أنه ما من داع يدعو إلا كان على إحدى ثلاث: إما أن يعطى الدعوة التي دعاها، أو يدخر له، أو يصرف عنه بها.
قال محمد بن رشد: قوله في الحكاية الأولى: فإن الله قد بارك لعبد في حاجة أذن له فيها بالدعاء. معناه قد بارك له في حاجة وفقه فيها للدعاء، إذ هو مأذون له في الدعاء في جميع حوائجه؛ لأن الدعاء عبادة من العبادات يؤجر عليها الأجر العظيم، أجيبت دعوته فيما دعا به أو لم تجب. لأنه لا يدعو ويجتهد في الدعاء إلا بإيمان صحيح، ونية خالصة. ولن يضيع له ذلك عند الله تعالى، فإن الله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] فهذا وجه بركة تلك الحاجة عليه إن كانت سببا لانتفاعه بدعائه في أخراه، وإن حرم المنفعة به في دنياه؛ لأن الذي أعطي خير من الذي حرم. وليس فيما جاء في الحديث من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه». ما يدل على أنه لا يدخر له ولا يكفر عنه إذا استجيب له. لأن المعنى فيه إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه مع الاستجابة له. والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة حسن الأدب مع السائل الجاهل:

في حسن الأدب مع السائل الجاهل قال: وسمعته يقول جاء رجل بدوي إلى القاسم فقال له: أنت أفقه أم سالم؟ فقال له: ها أنذا وذاك سالم، فإن تأته لم يخبرك إلا بما أحاط به علما.
قال محمد بن رشد: لما سأله عما يكره الجواب فيه بما يعتقده في نفسه، من أنه أفقه من سالم، عدل له عن الجواب عما سأله عنه إلى الثناء على سالم بما يعتقده فيه من محاسن الأخلاق.

.مسألة اقتناء الكلاب:

فيما جاء في اقتناء الكلاب قال محمد بن أحمد العتبي: وحدثني سحنون بن سعيد، عن ابن القاسم، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان».
قال محمد بن رشد: القيراط مثل جبل أحد على ما جاء في حديث ثواب المصلي على الجنازة، فالمقدار الذي يكون للمصلي على الجنازة من الأجر، هو المقدار الذي يحط كل يوم من أجر مقتني الكلب لغير ماشية ولغير صيد. وهو عدد ما في جبل أحد من مثاقيل الذر؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. فإذا كان من يعمل من الخير والشر مثقال ذرة يراه، فالذي يعمل مثقال القيراط من الخير والشر. يكون له من الخير وعليه من الشر زنة جبل أحد من مثاقيل الذر، ولا يعلم قدر ذلك من الثواب أو الإثم الذي يستحق عليه العقاب، إلا أن يغفر الله له، إلا يوم الجزاء والحساب؛ لأن الثواب ليس بجسم، يعبر بالوزن، وإنما هو تمثيل وتشبيه. وقد يمثل ما يعقل مما لا يوزن، ليفهم معناه ويعلم. فعقلنا بهذا الحديث أنه ينتقص من أجر مقتني الكلاب لغير ماشية ولا صيد كل يوم من الثواب، عدد ما في جبل أحد من المقدار الذي تفضل الله به على من عمل أدنى يسير من الخير. وهو مقدار الذرة. وفي قوله في الحديث: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية» دليل على أنه يجوز اقتناء كلب الصيد وكلب الماشية. والاقتناء لا يكون إلا بالاشتراء. ففيه دليل على جواز بيع كلب الماشية والصيد، وهو قول ابن نافع وابن كنانة وسحنون وأكثر أهل العلم، والصحيح في النظر؛ لأنه إذا جاز الانتفاع به، وجب أن يجوز بيعه، وإن لم يحل أكله، كالحمار الأهلي الذي لا يجوز أكله، ويجوز بيعه لما جاز الانتفاع به. وهو دليل هذا الحديث، على ما ذكرناه، خلاف ما قاله ابن القاسم، ورواه عن مالك، من أنه لا يجوز بيع كلب ماشية ولا صيد، كما لا يجوز بيع ما سواها من الكلاب، لنهي النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عن ثمن الكلب عموما.
وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة قول النبي عليه السلام في غفار وأسلم وعصية:

قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في غفار وأسلم وعصية وحدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن عبد الرحمن بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله».
قال محمد بن رشد: إنما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عصية إنها عصت الله ورسوله، لما كان من غدرهم بأهل بير معونة، وذلك أن رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، على ما في الصحيح «استمدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار، كانوا يسمون بالقراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنقار ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببير معونة قتلوهم وغدروا بهم. فبلغ النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان. قال أنس راوي الحديث: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. وأما أسلم، فإنما قال فيها: سالمها الله. لما روي عن أبي هريرة أسلم ومعه سبعون راكبا من أهل بيته. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحمد لله إذ أسلمت بنو سهم طائعين غير مكرهين، ودعا لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فقال: أسلم سالمها الله». وذلك إن إسلامهم كان سالما من غير حرب. وإما غفار فإنما خصهم بالدعاء والمغفرة- والله أعلم- لمبادرتهم إلى الإسلام، وقد أسلم أبو ذر في أول أيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بمكة، غير ظاهر، وفي قصة إسلامه أنه قال: «أتيت رسول الله فأسلمت، فرأيت الاستبشار في وجهه، فقال: من أنت؟ فقلت: أنا جندب رجل من غفار، فكأنه ارتدع وود أني كنت من غير قبيلتي.» وذلك لما كانوا يقرفون به من الشر. وكانوا يستحلون الشهر الحرام في الجاهلية، ويسرقون الحجيج، ويشبه والله أعلم أن يكون إنما دعا لهم بالمغفرة ليمحو تلك السيئة ويزيلها عنهم، ثم حسن بلاء هاتين القبيلتين في الإسلام. ويقال كان مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أسلم يوم حنين أربعمائة فارس. ومن غفار مثل ذلك، ذكر ذلك الخطابي. وبالله التوفيق.

.مسألة التبرك بما لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم:

في التبرك بما لبسه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال مالك: حدثني يحيى بن سعيد، «أن النبي عليه السلام لبس بردة من صوف. قال فلبسها ونزع خلق ثوب كان عليه، قال فجاءه رجل فقال يا رسول الله اكسني إياه، قال: فأعطاه إياه، وأخذ خلق ثوبه، فكره الناس ما صنعه الرجل، فعاتبوه في ذلك، فقال: أما إني لم أسأله إياه أن ألبسه، ولكني أردت أن أجعله كفنا لي».
قال محمد بن رشد: في هذا ما كان عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السخاء وبذل المال، والإيثار به عن نفسه، وترك رد من يسأله خائبا. وبالله التوفيق.

.مسألة الربا بين العبد وسيده:

في الربا بين العبد وسيده قال مالك: ولا أحب للسيد أن يكون بينه وبين عبده ربا؛ لأنه لو كان عليه أين كان يحاص سيده بما أربا؟ ولو أعتقه تبعه ماله، فلا أحب أن يكون بينه وبين عبده ربا.
قال محمد بن رشد: كره مالك الربا بين العبد وسيده، ولم يحرمه فقال: لا أحب للسيد أن يكون بينه وبين عبده ربا، وان كان العبد يملك على مذهبه ما ملكه سيده أو ملكه غيره بوجه جائز، من أجل أن ملكه لماله غير مستقر، إذ لسيده أن ينزعه منه، فلما كان له أن ينتزع ماله بغير رضاه، لم يحرم عليه أن يأخذ منه ما أربى معه فيه، إلا أنه كره ذلك، إذ لم يأخذه بوجه الانتزاع، وإنما أخذه باسم الربا، فكره ذلك لذلك، ولما ذكره في الرواية. من أن الربا يثبت له عليه فيحاص به غرماءه إن كان عليه دين. ومراعاة للخلاف في ملك العبد أيضا، إذ من أهل العلم من يقول: إنه لا يملك، وإن ماله لسيده، ويجب عليه زكاته، ولا يجوز للعبد أن يتصرف فيه، وهو مذهب الشافعي. وأبي حنيفة، القولين وجه، وقول مالك أظهر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ولا يوصف بالفقر والغنى من لا يملك، فربا السيد مع عبده من المشتبهات التي من تركها أجر، ومن فعلها لم يأثم، لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الحلال والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن أتقى المشتبهات استبرا لدينه» وكذلك الربا مع الحربي في دار الحرب مكروه، وليس بحرام؛ لأنه لما جاز له أن يأخذ من ماله ما لم يؤتمن عليه لم يحرم عليه أن يربي معه فيه، وكره من أجل أنه لم يأخذه على الوجه الذي أبيح له أخذ ماله، وإنما أخذه بما عامله عليه من الربا. وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة الحديث الذي جاء من أنه ما مات نبي حتى يؤمه رجل من قومه:

في الحديث الذي جاء من أنه «ما مات نبي حتى يؤمه رجل من قومه» قال النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ما مات نبي حتى يصلي وراء رجل من قومه».
قال محمد بن رشد: قد روى مالك هذا الحديث عن ربيعة، فصحح «أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إذ خرج في مرضه الذي توفي منه وأبو بكر يصلي بالناس، صلى خلفه جالسا، ولم يخرج أبو بكر» عن الإمامة، فلم يجز للإمام أن يؤم جالسا بالأصحاء قياما. وقد تعارضت الآثار في ذلك، فجاء في بعضها ما دل على «أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لما خرج في مرضه وأبو بكر يصلي بالناس، فتأخر أبو بكر عن الإمامة وتقدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى بالناس بقية صلاتهم وهو جالس، والقوم خلفه قياما». وجاء في بعضها ما دل على أن أبا بكر لم يتأخر عن الإمامة وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما صلى مؤتما بأبي بكر. فمن الناس من صحح ما دل منها أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، كان الإمام. ومعنى ذلك أنه أحرم خلفه، ثم أتم بالناس بقية صلاتهم، وصار أبو بكر مؤتما به فيها، إذ لا يصح أن يحرم بعد أن خرج أبو بكر عن الإمامة؛ لأنه لا يكون قد أحرم قبل بالناس، ولا يصح أن يحرم الإمام قبل القوم، ورأى ذلك شرعا شرعه لأمته، ولم ينسخه عنهم، ولا اختص به دونهم، فأجاز إمامة المريض جالسا، بالأصحاء قياما. وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. ومنهم من صحح منها ما دل أيضا أنه كان الإمام، إلا أنه رأى ذلك من خواصه، فلم يجز لأحد بعده إذا كان مريضا أن يؤم بالأصحاء قياسا. وهو المشهور من قول مالك وقول أصحابه. ومنهم من ذهب إلى أن ذلك كان منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاتين، فكان في الصلاة الأولى هو الإمام، وائتم في الثانية بأبي بكر، فكان فعله في الصلاة الثانية ناسخا لفعله في الصلاة الأولى، والتأويلان قائمان لمالك في رواية ابن القاسم عنه في رسم سن من سماعه من كتاب الصلاة. وعلى هذا التأويل تتخلص الآثار من التعارض، فهو أولاها بالصواب. وقد زدنا هذه المسألة بيانا في رسم سن المذكور من هذا السماع، من كتاب الصلاة. وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة القنوت في الصلاة:

في القنوت في الصلاة قال: وما يعجبني القنوت إلا في الصبح، ولا أرى القنوت في آخر رمضان ولا في أوله.
قال محمد بن رشد: قوله: ما يعجبني القنوت إلا في الصبح يدل على أنه عنده مستحب، وليس بسنة. وهو مذهبه في المدونة لأنه قال فيها: لا سجود سهو على من نسيه. وقال فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى: القنوت في الفجر سنة ماضية، فعلى قوله من نسيها سجد لسهوه. وروى زياد عن مالك أنه يسجد للسهو عنه قبل السلام من ألزمه نفسه، ولا يسجد من لم يلزمه نفسه. معناه يسجد من اعتقد فيه أنه سنة. وقال يحيى بن يحيى: لو كنت ممن يقنت ثم نسيته لسجدت. وقوله: ولا أرى القنوت في آخر رمضان ولا في أوله مثله في كتاب الصيام من المدونة إنه لا يقنت في الوتر أصلا، لا في أول رمضان ولا في آخره، ولا فيما سواه. وهو المشهور عنه-. وقد اختلف قوله في ذلك. فروى علي بن زياد عنه أنه لا يقنت في الوتر إلا في النصف الآخر في رمضان. وروى ابن نافع عنه الروايتين جميعا. وقال في المدونة: ليس العمل على ما جاء من لعن الكفرة في رمضان. يريد- والله أعلم- لما جاء من «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينما هو يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فأومأ إليه أن اسكت، فسكت فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]. ثم علمه القنوت». وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا فمن أهل العلم من رأى القنوت في الوتر في رمضان كله، ومنهم من رآه في النصف الآخر منه وهو الأكثر، ومنهم من رآه في النصف الأول، ومنهم من رأى لعن الكفرة فيه على ما في الموطأ عن الأعرج أنه قال: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. وقد سئل في رواية محمد بن يحيى السيابي كيف كان ذلك؟ فقال: كان يدعو في النصف الآخر من رمضان في الوتر على الكفرة ويلعنهم، ويستنصر للمسلمين يجهر بذلك. وأول من قطعه زياد بن عبد الله وحين قطعه- والله أعلم- قال الأعرج: ما أدركت الناس وقد أدرك جماعة من الصحابة إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، إنكارا عليه، واستحسنه مالك في رواية محمد بن يحيى عنه. وقال: لم يكن في الزمن الأول زمن أبي بكر وعمر وعثمان، وقال ابن القاسم: كان مالك بعد ذلك ينكره إنكارا شديدا، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة العلم بكثرة الرواية:

في أن العلم ليس في كثرة الرواية قال: وسمعته يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله في القلوب.
قال محمد بن رشد: النور الذي يضعه الله في القلوب، هو الفهم الذي به تستبين المعاني فيتفقه فيما حمل، فشبه ذلك بالنور وهو الضياء الذي به ينكشف الظلام، فمن لم يكن معه ذلك النور، فهو بمنزلة الحمار فيما حمل من كثرة الروايات يحمل أسفارا. فمن أراد الله به خيرا أعطاه من ذلك النور. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] قال مالك: هو الفقه في دين الله. وقد أثنى الله عز وجل على من آتاه الفهم، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]. والحكم الفهم والفقه، والله أعلم، وبه تعالى التوفيق.